تشهد سوق الغاز الطبيعي العالمية تحولات مستمرة في الأسعار، ويعود ذلك إلى تفاعل معقد بين عدد من العوامل الأساسية، أبرزها الطقس، الصادرات (وخاصة الغاز الطبيعي المسال – LNG)، ومستويات العرض والإنتاج. فهم هذه المحركات أصبح أمرًا بالغ الأهمية للمستثمرين الراغبين في تتبع تطورات السوق واستباق التغيرات السعرية.
الطقس: المتغير الطبيعي الأكثر تأثيرًا
الطقس يظل من أبرز العوامل التي تؤثر مباشرة في الطلب على الغاز الطبيعي، وخصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا. ففي الشتاء، تزداد الحاجة إلى التدفئة، مما يؤدي إلى ارتفاع كبير في استهلاك الغاز. وعلى العكس، فإن فصول الشتاء الدافئة تقلل من الطلب، ما يضغط على الأسعار نحو الهبوط.
في صيف عام 2025، شهدت مناطق عديدة في الولايات المتحدة موجات حر غير معتادة، ما أدى إلى زيادة الاعتماد على مكيفات الهواء وبالتالي رفع الطلب على الكهرباء المُولدة بالغاز الطبيعي. هذا الاتجاه كان واضحًا في ولايات الجنوب، حيث ارتفع الطلب الكهربائي بنسبة 7% مقارنة بصيف العام الماضي، مما انعكس على الأسعار الفورية للغاز.
لكن المفارقة تكمن في أن تقلبات الطقس لا تؤثر فقط على الطلب، بل قد تؤثر أيضًا على العرض. فالأعاصير والعواصف في خليج المكسيك، على سبيل المثال، تؤدي إلى توقف إنتاج الغاز من المنصات البحرية، وهو ما قد يخلق نقصًا مفاجئًا في الإمدادات.
الصادرات: نمو الغاز الطبيعي المسال (LNG)
منذ العقد الأخير، أصبح الغاز الطبيعي سلعة عالمية بفضل تكنولوجيا تسييل الغاز وتصديره على شكل LNG. الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تحولت إلى أحد أكبر مصدري الغاز المسال في العالم، وتزايد الطلب من أوروبا وآسيا لعب دورًا كبيرًا في رفع الأسعار.
بعد الحرب في أوكرانيا وتقليص روسيا لصادراتها من الغاز إلى أوروبا، زاد اعتماد الأوروبيين على الغاز الأمريكي. وقد ساعد هذا في رفع أسعار العقود الآجلة خلال شتاء 2022–2023 إلى مستويات قياسية. ومع اقتراب فصل الشتاء القادم، تشير التقديرات إلى أن الطلب الأوروبي على الغاز المسال سيستمر في التأثير على سعر الغاز الطبيعي اليوم، خصوصًا في ظل ارتفاع تكاليف التخزين ومحاولات إعادة تعبئة المخزونات قبل موسم البرد.
في الوقت ذاته، فإن نمو الطلب الآسيوي، وخاصة من الصين وكوريا الجنوبية، يضيف بعدًا تنافسيًا للصادرات الأمريكية. هذا يخلق حساسية كبيرة بين الإنتاج المحلي الأمريكي وبين الطلب الخارجي، حيث تؤدي أي زيادة في الشحنات المصدرة إلى تقليل المعروض المحلي ورفع الأسعار في السوق الداخلية.
العرض: الإنتاج والتخزين والمخزون الاحتياطي
جانب العرض لا يقل أهمية، ويشمل مستويات الإنتاج من الحقول، وحجم التخزين المتاح، والقدرة على التكرير والتوزيع. الإنتاج الأمريكي من الغاز يشكل نسبة كبيرة من السوق العالمية، وأي تباطؤ في عمليات الحفر أو التكسير الهيدروليكي بسبب قضايا تنظيمية أو بيئية أو حتى بسبب انخفاض الأسعار سابقًا يمكن أن يؤدي إلى نقص في المعروض.
خلال النصف الأول من عام 2025، شهد الإنتاج الأمريكي بعض التحديات اللوجستية والتقنية التي أدت إلى تباطؤ في النمو. وفي المقابل، كانت مستويات التخزين أقل بقليل من متوسط السنوات الخمس الماضية، مما أوجد حالة من الحذر في الأسواق، ورفع أسعار العقود الآجلة تحسبًا لأي أزمة مفاجئة في الإمدادات.
كما أن قرارات منظمة أوبك+، رغم تركيزها على النفط، تؤثر غير مباشر على الغاز من خلال تحركات المستثمرين وتغييرات السيولة في أسواق الطاقة بشكل عام.
تأثير العوامل الثلاثة معًا على حركة السوق
ما يجعل تحليل سوق الغاز الطبيعي أكثر تعقيدًا هو التفاعل اللحظي بين هذه العوامل. على سبيل المثال، إذا تزامن شتاء بارد غير متوقع مع زيادة الطلب الأوروبي على LNG، وفي الوقت نفسه حدث تباطؤ في الإنتاج المحلي، فإن ذلك يؤدي إلى طفرة سريعة في الأسعار.
وقد لوحظ مثل هذا السيناريو خلال شتاء 2021، عندما اجتمعت موجة برد حادة في تكساس مع تعطل بعض منشآت الإنتاج وانخفاض المخزون، فارتفع السعر الفوري بأكثر من 300% خلال أسبوعين فقط.
لذا، يبقى من الضروري للمستثمرين مراقبة النشرات الجوية، وتحليلات سوق الطاقة، وتقارير المخزونات الأسبوعية الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وكذلك تتبع الأخبار الجيوسياسية المتعلقة بالتجارة الدولية للطاقة.
في هذا السياق، فإن متابعة سعر الغاز الطبيعي اليوم تعتبر خطوة أساسية لفهم توجهات السوق اليومية وتقييم فرص التداول أو التحوط.
آفاق مستقبلية
التوقعات للفصول القادمة تشير إلى تزايد الترابط بين أسواق الغاز الإقليمية والعالمية. تقلبات الطقس، سياسات الطاقة الأوروبية، واستمرار تحول الصين نحو الطاقة النظيفة ستبقى عوامل ضغط وتحفيز في آن واحد. وقد يصبح الغاز الطبيعي، في ظل هذه المتغيرات، أحد أكثر السلع تقلبًا خلال العقد القادم، ما يخلق فرصًا ومخاطر متزايدة للمستثمرين في هذا القطاع الديناميكي.
